تقادم الدعوى من المفاهيم الجوهرية في النظام القضائي السعودي، حيث يمثل أداة لضبط استقرار المعاملات ومنع بقاء النزاعات مفتوحة إلى ما لا نهاية.
فقد راعى المنظم السعودي أن الحق لا يضيع بالتقادم، لكنه قد يمنع سماع الدعوى به بعد مضي مدة معينة، وهو ما يُعرف بـ تقادم الدعوى.
وقد جاء ذلك متوافقًا مع مبادئ الشريعة الإسلامية من جهة، ومع ضرورات العدالة الإجرائية وحماية المراكز القانونية المستقرة من جهة أخرى.
ويكتسب موضوع تقادم الدعوى أهمية بالغة لارتباطه المباشر بمصالح الأفراد والشركات والجهات الحكومية، إذ يمثل وسيلة لحماية المدين من بقاء الالتزامات معلقة بلا نهاية، وفي الوقت نفسه يحفز الدائن على سرعة المطالبة بحقه قبل سقوط الدعوى بالتقادم.
كما أن دراسة هذا المفهوم تكشف لنا كيف استطاع المنظم السعودي الجمع بين أحكام الشريعة ومقتضيات العصر من خلال وضع مدد زمنية محددة تتسم بالمرونة وتختلف باختلاف نوع الدعوى وطبيعة الحق المطالب به.
ومن هنا، فإن التعرف على هذه المدد النظامية، وشروط انقطاعها أو وقفها، يساهم في تجنب الكثير من النزاعات والإشكاليات العملية أمام المحاكم.
لذلك فإن الإلمام بأحكام تقادم الدعوى يعد ضرورة ليس فقط للمحامين والقضاة، بل لكل من له تعاملات تجارية أو عمالية أو مدنية، بل وحتى في القضايا الجنائية التي قد يتوقف مصيرها على مدى انقضاء الدعوى بالتقادم أو استمرارها.
وفي هذا المقال نستعرض أنواع تقادم الدعوى في القانون السعودي، من خلال الأنظمة الأساسية: مثل نظام المعاملات المدنية، نظام المحاكم التجاري، نظام العمل، نظام الإجراءات الجزائية، مع ذكر النصوص النظامية ذات الصلة لتقديم صورة متكاملة.
تقادم الدعوى هو نظام قانوني يحدد مدة زمنية معينة إذا انقضت دون أن يقوم صاحب الحق برفع دعواه أمام القضاء، فإن الدعوى تسقط أو لا تُسمع بعد هذه المدة.
والغرض من هذا التنظيم هو تحقيق الاستقرار في المعاملات، ومنع استمرار النزاعات إلى ما لا نهاية، وتشجيع الأفراد على المطالبة بحقوقهم في وقت معقول.
فالتقادم لا يرتبط فقط بمرور الزمن، بل يعكس فلسفة قانونية تسعى إلى حماية المراكز القانونية المستقرة، وتفادي تراكم القضايا القديمة التي يصعب إثباتها مع تقادم الأدلة والبينات.
ويُعد التقادم بذلك وسيلة إجرائية لحسم النزاعات، وضمان التوازن بين حق الدائن في المطالبة وحق المدين في الاستقرار وعدم التعرض لمطالبات بعد فترات طويلة.
ربما يهمك أيضاً: اختصاص المحاكم السعودية
يقصد بالتقادم في أغلب القوانين المقارنة أنه انقضاء الحق نفسه بمرور مدة زمنية يحددها القانون، دون أن يقوم صاحب الحق باتخاذ أي إجراء للمطالبة به خلال هذه المدة. وبانقضاء هذه الفترة يسقط الحق نهائيًا، فلا يمكن لصاحبه المطالبة به لا قضائيًا ولا حتى قانونيًا، إذ يعتبر وكأنه لم يكن.
والغاية من هذا المبدأ تحقيق الاستقرار القانوني ومنع بقاء النزاعات مفتوحة بلا نهاية.
أما في النظام السعودي، فقد أخذ المشرع بمفهوم يتمثل في عدم سماع الدعوى بمرور الزمن (التقادم المانع من سماع الدعوى). فالأصل أن الحق لا يسقط بالتقادم كما وضحت المادة 295 من نظام المعاملات المدنية، بل يبقى قائمًا في ذمة المدين، إلا أن الدعوى القضائية لا تُقبل للمطالبة به بعد انقضاء المدة المحددة في النظام.
وهذا يعني أن الحق من الناحية المعنوية أو الطبيعية يظل موجودًا، لكن صاحبه يُحرم من وسيلة المطالبة القضائية به إذا تراخى عن رفع الدعوى في المدة المحددة.
كما أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي بعدم سماع الدعوى لمرور الزمن من تلقاء نفسها، وإنما يجب أن يتمسك به المدين أو صاحب المصلحة وفق ما نصت عليه المادة 306 من نظام المعاملات المدنية.
تتميز المعاملات التجارية عن غيرها من المعاملات المدنية بالسرعة والدقة والحرص على استقرار التعامل، ولذلك أولى المنظم السعودي أهمية خاصة لموضوع التقادم في الدعاوى التجارية.
فقد نصت المادة 24 من نظام المحاكم التجارية على أنه: "فيما لم يرد به نص خاص، لا تسمع الدعاوى التي تختص بنظرها المحكمة بعد مضي خمس سنوات من تاريخ نشوء الحق المدعى به، ما لم يقر المدعى عليه بالحق أو يتقدم المدعي بعذر تقبله المحكمة".
ويتضح من هذا النص أن المشرع جعل القاعدة العامة في الدعاوى التجارية أن مدة سماعها هي خمس سنوات فقط من تاريخ نشوء الحق، ما لم يوجد نص خاص بمدة مختلفة.
والغاية من ذلك أن الدعاوى التجارية غالبًا ما ترتبط بمعاملات مالية سريعة ومتكررة، ومن غير المناسب ترك النزاعات المتعلقة بها معلقة لفترات طويلة قد تضر بالاستقرار الاقتصادي والتجاري.
كما بين النص أن هذه المدة ليست مطلقة، وإنما يمكن تجاوزها في حالتين أساسيتين:
وبهذا الترتيب يتضح أن نظام المحاكم التجارية قد جمع بين حماية استقرار المعاملات التجارية من خلال تحديد مدة قصيرة نسبيًا لسماع الدعاوى، وبين حماية أصحاب الحقوق عبر السماح بالاستثناءات التي تضمن عدم ضياع الحقوق عند وجود مبررات مقنعة.
ربما يهمك أيضاً: دعوى محاسبة الشريك في الشركة
قد يواجه الكثير من العاملين وأصحاب الأعمال سؤالًا مهمًا: إلى متى يمكن رفع دعوى عمالية بعد انتهاء علاقة العمل؟ هذا السؤال يتكرر كثيرًا في الواقع العملي، خصوصًا عندما يكون هناك حقوق مالية أو مستحقات متأخرة لم تُصرف بعد انتهاء العقد.نظام العمل السعودي جاء ليوضح هذه النقطة بشكل صريح في المادة (234)، حيث نص على:لا تُقبل أي دعوى تتعلق بالمطالبة بحق من الحقوق المنصوص عليها في هذا النظام أو الناشئة عن عقد العمل بعد مضي 12 شهرًا من تاريخ انتهاء علاقة العمل، إلا إذا قدم المدعي عذرًا تقبله المحكمة، أو إذا اعترف المدعى عليه بالحق.
بمعنى أبسط:
الغاية من هذه القاعدة هي تحقيق التوازن بين الطرفين:
الخلاصة إذن، على العامل أن يكون واعيًا بالمدة النظامية وألا يهمل حقوقه، وعلى صاحب العمل أن يدرك أن الإقرار بالحق يظل ملزمًا له حتى لو انتهت مدة التقادم.
وفي كل الأحوال، يبقى اللجوء للمحكمة العمالية هو الطريق النظامي الآمن لضمان الحقوق.
نص نظام المعاملات المدنية السعودي على ثلاثة أنواع رئيسية من مدد التقادم (عدم سماع الدعوى بمرور الزمن)، وهي:
وهو المدة العامة لعدم سماع الدعوى، حيث لا تُسمع الدعوى بالحق على المنكر إذا مضت عشر سنوات من تاريخ استحقاقه، إلا إذا نص النظام على مدة مختلفة أو وجد استثناء.
والغاية منه تحقيق التوازن بين استمرار الحق من الناحية القانونية وبين استقرار المراكز القانونية ومنع النزاعات الممتدة.
يشمل بعض الحقوق ذات الطبيعة الخاصة، ومنها:
وهي أقصر مدة نص عليها النظام، وتشمل:
وقد قُصد بهذا النص ضمان سرعة المطالبة بالحقوق الصغيرة والمتكررة حتى لا تبقى النزاعات عالقة مدة طويلة.
ربما يهمك أيضاً: معنى الحكم بعدم قبول الدعوى
حدد نظام الإجراءات الجزائية السعودي في الفصل الثاني أحكام انقضاء الدعوى الجزائية، حيث أوضح الحالات التي تنقضي فيها الدعوى سواء كانت دعوى عامة أو دعوى خاصة، وذلك على النحو التالي:
تنقضي الدعوى الجزائية العامة بأحد الأسباب التالية:

ومع ذلك، نص النظام صراحة على أن انقضاء الدعوى العامة لا يمنع من الاستمرار في دعوى الحق الخاص إذا كان للمجني عليه أو ورثته حق خاص ناشئ عن الجريمة.
أما الدعوى الجزائية الخاصة – وهي التي يرفعها المجني عليه أو من يقوم مقامه – فإنها تنقضي في حالتين:
لكن المشرع نص على أن عفو المجني عليه أو ورثته لا يمنع من الاستمرار في دعوى الحق العام التي تتعلق بحق الدولة والمجتمع في معاقبة مرتكب الجريمة.
الخلاصة: التقادم في القضايا الجنائية في النظام السعودي يقوم على التفرقة بين الحق العام والحق الخاص؛ فالحق العام يزول بأسباب تتعلق بمصلحة المجتمع والنظام العام مثل الحكم القطعي أو العفو أو التوبة أو وفاة المتهم، بينما الحق الخاص يزول برضا المجني عليه أو ورثته.
ومع ذلك، فإن سقوط أحدهما لا يستتبع بالضرورة سقوط الآخر.
ربما يهمك أيضاً: الاستئناف في منازعات الأوراق المالية
يظهر أن نظام التقادم في القانون السعودي ليس مجرد قاعدة إجرائية، بل هو أداة لتحقيق العدالة وحماية الاستقرار القانوني.
فالحق لا يسقط بمرور الزمن، وإنما يُمنع فقط سماع الدعوى به بعد انقضاء المدد المحددة نظامًا، وهو ما يضمن التوازن بين حق الدائن في المطالبة وبين حاجة المدين والمجتمع إلى الاستقرار.
ومن هنا تتضح أهمية وعي الأفراد والشركات بهذه المدد، سواء في المعاملات التجارية أو العمالية أو المدنية أو حتى الجزائية، لتفادي ضياع الحقوق بالتراخي، وتحقيق سرعة الفصل في المنازعات بما يخدم العدالة واليقين القانوني.
وقت المطالبة بحقك هو سلاحك الأقوى! في مكتب "سهل للمحاماة"، نحميك من خطر سقوط دعواك بالتقادم من خلال:
